على مدى المائة عام الماضية، عشنا فترات من التطور غير مسبوقة والتي أدت إلى مضاعفة متوسط عمر الفرد المتوقع إضافة إلى القضاء على العديد من الأمراض المعدية القاتلة؛ ففي عام 1900 كان متوسط عمر الفرد المتوقع عالمياً من بداية ولادته تصل لـ 31 عاماً فقط، وبحلول عام 2000 تضاعف عمر الفرد إلى 76 عاماً، حيث انخفضت أعداد حالات الشلل عند الأطفال بنسبة تزيد عن 99% منذ عام 1988. وأدى هذا التطور إلى تحرير الملايين من الأعمال المهلكة جسدياً، ولكن هل هذه ليست أخبار سارة؟
من المؤسف أنه بالرغم من العمل القائم على التنمية الاقتصادية، ومع أن ارتفاع نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي وازدهار القطاعات الناشئة (كالتصنيع، وتقنية المعلومات والاتصالات، والتمويل، وما إلى ذلك)، إلا أن قطاع الأنشطة الرياضية والبدنية تخلف تخلفاً كبيراً عن الركب. وماهي نتيجة ذلك؟ النتيجة كانت وجود أسلوب حياة قائم على قلة الحركة لا سيما مع انخفاض النشاط البدني في مقر العمل والتنقل سيراً إلى العمل، واقتران ذلك بزيادة الاستهلاك المفرط، والذي بدوره ساهم في تفاقم الأزمات الصحية المتمثلة في الأمراض غير المعدية.
موريشيوس - الجزيرة التي تعتبر نموذجًا للعالم
سيتناول هذا المقال كيفية إرتقاء دولة موريشيوس بالأنشطة الرياضية والجسدية وجعلها أولوية وطنية لمعالجة القضايا الصحية والاجتماعية المتنامية؛ فدولة موريشيوس تحظى حالياً بالنصيب الأعلى من حيث ثروة الفرد مقارنة بأي دولة من دول أفريقيا، حيث ارتفع نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي بمعدل نمو سنوي ومركب نسبته 5.7% من الفترة 2001 إلى 2016، إلا أن الأمراض غير المعدية في دولة موريشيوس ازدادت أيضا زيادة كبيرة خلال هذه الفترة، حيث يموت فرد موروشي 1 من بين 4 موريشيويين حالياً والسبب يعود إلى أمراض السكري من النوع الثاني، والتي تشكل نسبة أعلى مقارنة بأي دولة أخرى في العالم، كما أن الإنفاق على الصحة يرتفع بسرعة تتجاوز 35% مقارنة بالمتوسط العالمي.
وعلى مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية، أظهرت وزارة الشباب والرياضة في موريشيوس كيفية معالجة هذه القضايا من خلال إعطاء الأولوية لتطوير قطاع الرياضة والنشاط البدني، حيث حققوا ذلك من خلال تبني القيادة البسيطة والفعالة التي تتميز بأربعة سمات رئيسية وهي سمات ذات رؤية حالمة، وذات تحفيز عالي، كما تتمتع بالتفاعل والتعاون ونمذجة الأدوار.
رؤية طموحة
كانت الخطوة الأولى للقيادة العليا في موريشيوس هي الاعتراف بأهمية الرياضة والنشاط البدني في التنمية الوطنية من خلال الالتزام بتطوير أول سياسة وطنية للرياضة والنشاط البدني. وقد حددت هذه السياسة عشرين إجراءً من الإجراءات الاستراتيجية التي ستتخذها الحكومة، ومنظمات الرياضة، والشركات بشكل مشترك لتحقيق الهدف الطموح المتمثل في زيادة عدد فئة الناضجين الممارسين للنشاط البدني وذلك لاستيفاء إرشادات الأنشطة البدنية لمنظمة الصحة العالمية الممتثلة في رفع النشاط البدني من نسبة 14% إلى نسبة 35% بحلول عام 2028. كما دعم هذا التوجه دراسة حالة تسعى للتغيير، والتي أظهرت أن الأثر الاجتماعي، والصحي، والاقتصادي لتحقيق هذا الهدف سيولد عائداً على الاستثمار بنسبة 327% (365 مليون دولار أمريكي) على مدى عشر سنوات. إضافة إلى ذلك، أنشأت الحكومة كياناً جديداً يتمتع بمساءلة واضحة عن زيادة المشاركة وتمكينها من خلال تخصيص زيادة في ميزانيتها بنسبة 100% مقارنة بالسنوات السابقة لتحقيق هذه الرؤية، حيث أصبح هذا المزيج البسيط من السياسات، والأهداف، وقضية التغيير والمساءلة، سبباً في تحفيز تنمية قطاع الرياضة والنشاط في مختلف أنحاء الدولة.
التحفيز!
الأمر الأكثر أهمية هو أن السياسة الوطنية ورؤيتها لم تُوضع في أدراج الأرشيف فقط، بل تواصلت وزارة الشباب والرياضة بشكل واسع ومتكرر من أجل تحفيز الجهات المعنية من خلال وضع المحتوى الملهم والذي يتمحور شعاره حول مبدأ "مواطنون أكثر صحة، ومجتمعات أكثر سعادة، وشعبًا أقوى". حيث تم طبع وترويج هذا الشعار في جميع الفعاليات الرياضية، والذي بدوره جعلها محور مناقشة بث قنوات الراديو، والقنوات التلفزيونية، ومنصات التواصل الاجتماعية، كما أنها قُدمت وشُرحت للجهات المعنية من خلال بذل جهود عمل مشتركة وتعزيزها وتأييدها بين الوزارات يرأسها كبار المسؤولين الحكوميين، بمن فيهم رئيس الوزراء. والذي ترك انطباع في كل مكان في الدولة عن التحول الذي يشهده قطاع الرياضة في دولة موريشيوس.
"مواطنون أكثر صحة، ومجتمعات أكثر سعادة، وشعبًا أقوى"
التفاعل والتعاون
نجحت قيادة موريشيوس في إشراك شبكة من الجهات المعنية المحلية والعالمية في دعم رؤيتها الطموحة التي وضعتها هذه الجهات، حيث تتجلى المشاركة العالمية المتنامية التي وضعتها دولة موريشيوس في الدعم المقدم من رابطة دول الكومنولث والشراكات الدولية المحتملة مع الجامعات الدولية ومركز الابتكار الرياضي العالمي بدعم من شركة ميكروسوفت. وعلى المستوى المحلي، فإن المشروع المشترك بين وزارة الشباب والرياضة وبرنامج جودة الحياة الممتثل في وزارة الصحة لإطلاق أول خطة إحالة طبية لممارسة الرياضة في البلاد هي إحدى نماذج التفاعل لزيادة التعاون، ومن خلال هذه العملية، شهدت دولة موريشيوس وضعا دوليا متنامياً ونشوء عدة شراكات قائمة على المدى البعيد على الصعيدين المحلي والدولي. ولأول مرة في تاريخها، انتخبت دولة موريشيوس كعضو بين رابطة الدول الاستشارية الأعضاء للكومنولث، وقد شكل التركيز على الشراكة والتعاون عاملاً رئيسياً للنجاح في دفع عملية التغيير.
نمذجة الأدوار
أما الشعار الذي اتخذه قادة دولة موريشيوس الممتثل في "القول والفعل"؛ فقادة البلاد شاركوا بشكل منتظم في فعاليات المشاركة المجتمعية، على سبيل المثال، تمرن رئيس الوزراء ووزير الشباب والرياضة لمدة ساعة متواصلة، على الرغم من حرارة الجو البالغة 30 درجة مئوية! كما حضر موظفون رفيعو مستوى بالوزارة جميع فعاليات المشاركة المجتمعية السبعة والتي نظُمت ما بين الفترتين 2018-2019 والسبب خلف ذلك هو ضرب نموذج يحتذى به لبقية الدولة، حيث يُعتبر تبني أساليب حياة أكثر صحة ونشاطاً كهذه كانت سبباً في تقديم رسائل ملائمة إلى عامة الناس، والموظفين، والجهات المعنية الخارجية، والذي بدوره لاقى قبولاً بين أهالي موريشيوس. وقد انعكس ذلك في الزيادة الكبيرة التي شهدتها فعاليات المشاركة المجتمعية في حضور الجماهير. على سبيل المثال، شهد سباق الطرق الممتازة في الجزيرة، والذي بلغ مسافاته بين 4 إلى 50 كم، زيادة بنسبة 200% في عدد المشاركين من عام 2018 إلى عام 2019.
حان وقت التنمية!
ومع أن إسهامات الرياضة والنشاط البدني في نتائج التنمية معترف بها على نطاق واسع، إلا أن كثير من الدول النامية لا تعتبر ذلك نهجاً رئيسياً في سياساتها لتحقيق التنمية المستدامة، وبإمكان دولة موريشيوس أن تعمل كنموذج يحتذى به للدول النامية الأخرى التي وقعت أو تسعى لتجنب الوقوع في فخ قلة الحركة وارتفاع معدل انتشار الأمراض غير المعدية. ولذلك، فإنه يلزم على البلدان أن تبدأ في السير على خطى هذه الدول. ولتحقيق ذلك، ينبغي لها أن تضع سياسات رياضية، وأن تحدد أهدافا طموحة، وأن تعمل على تمكين القادة أصحاب الرؤية الثاقبة، والتحفيز، والتعاون، ونمذجة الأدوار لتحقيق هذه الأهداف.
ما الذي يمكننا تحقيقه في حال أردنا تنفيذ ذلك بنجاح؟ يشكل إقناع شخص واحد فقط من كل مائة شخص غير نشط في الهند، وهي أحد الدول المشابهة لنموذج موريشيوس للدول ذات اقتصاد الدخل المتوسط الأعلى، بسد الفجوة المؤدية إلى تحقيق 2. 2 مليار دولار من الفوائد الاقتصادية، والصحية، والاجتماعية في كل عام.
لذا، دعونا الآن نجعل العالم المتنامي عالم نشط!