كما هو معروف أن الفوائد الصحية الناتجة عن النشاط البدني هي فوائد معترف بها على نطاق كبير في المملكة المتحدة، ومع ذلك فإن نسبة غير النشطين من سكان المملكة المتحدة تصل إلى 40%، حيث ذكر أكثر من نصف هؤلاء الأشخاص غير النشطين أنهم يرغبون أن يكونوا أكثر نشاطا. فلماذا على الرغم من الاستثمار الكبير في هذا المجال، لم ترتفع مستويات النشاط البدني بشكل ملموس في العقد الأخير؟ مما يتضح لنا أن هناك حاجز يفصل بين الأشخاص الذين يرغبون في أن يكونوا نشطيين وبين من أصبحوا نشطيين بالفعل. ولهذا السبب، يتعين علينا سد هذه الفجوة بين نية الفرد وممارسته الفعلية.
وتحدد هذه المقالة الخطوط العريضة في كيفية سد هذه الثغرة من خلال تبني نهج شامل يعالج في آن واحد سلوكيات النشاط البدني من ثلاث زوايا: تطوير مجتمع يشجع على ممارسة النشاط البدني، وإدارة البرامج في المجتمعات المحلية التي توفر فرصا مقنعة لممارسة الأنشطة البدنية، وتزويد الافراد بالدعم المخصص لتطوير عادات نشطة ومستدامة.
الشكل الأول: لابد من معالجة جميع الزوايا الثلاثة لسد الفجوة بين نية الفرد وممارسته الفعلية.
المجتمع – تشكيل المجال الرياضي
يؤثر مجتمعنا على أنشطتنا البدنية من خلال مجموعة من العوامل الاجتماعية والهيكلية. وقد تندرج العوامل الاجتماعية تحت أطر كالقيم الثقافية وتواجد النماذج التي يحتذى بها. وأما العوامل الهيكلية فهي تترواح بين البنية الأساسية، والمهارات، والمسابقات والجوائز
فيمكن للمجتمع أن يؤثر على الفجوة التي تواجه نية الفرد وممارسته الفعلية. ومن بين الأمثلة الجيدة على هذا الجانب: رياضة السباحة، الآن يقل عدد الأشخاص الذين يمارسون رياضة السباحة بانتظام عن عام 2010 بمقدار 500,000 شخص[3].
وهذا مع وجود عوامل اجتماعية بدت وكأنها تدعم زيادة المشاركة في رياضة السباحة خلال تلك الفترة، فبعد أولمبياد 2012 في لندن، كانت رياضة السباحة ثاني أشهر رياضة أولمبية أراد الجمهور المشاركة فيها، كما أن أعدادا كبيرة من الأشخاص قد سجّلـوا لبرامج السباحة [ 4].
إلا أن العوامل الهيكلية لا تدعم هذا الجانب، فالقوى العاملة كانت تعاني من نقص ملحوظ، كما أن المسابح لم تكن كافية لتلبي الطلب، فقد كانت قائمة الإنتظار طويلة في الكثير من المساب، ولم يزود الحاضرين بالمهارات اللازمة في رياضة السباحة. وقد حدد تقرير صدر في عام 2016 أن من كل ثلاثة أطفال ينتقلون من المرحلة الابتدائية هنالك طفل لم يتعلم أساسيات السباحة [5]، كما أن الحوافز لم تكون متوافقة مع الغرض أيضاً. ففي عام 2010، وضعت الحكومة سياسة تتيح لمن هم أصغر من 16 سنة وأكبر من 60 سنة من ممارسة رياضة السباحة مجاناً على الرغم زيادة عدد السباحين الشباب منذ تقديم الخطة السابقة بنسبة 50% [6].
وهذا المثال هو مثال واحد من الأمثلة العديدة التي تؤكد على أنه يجب على المجتمع أن يكون اهتمامنا الأول في أي سياسة تهدف إلى تعزيز النشاط، بالإضافة إلى مثال مقالنا الأخير الذي تناول موضوع "النساء في الرياضة" والذي يسلط الضوء على الحاجة إلى معالجة العوامل الاجتماعية والهيكلية لتحقيق النتائج المرجوة.
المجتمع - السهل الممتنع
تشكل المجتمعات الصغيرة جزءاً لا يتجزء من لبنة المجتمع، فالبرامج توفر للمجتمعات المحلية فرصا سانحة لممارسة النشاط البدني. إلا وأن البرامج المجتمعية غالباً ما يكون تأثيرها ضئيلاً على النشاط البدني. فقد قدم تقرير صدر في عام 2014 من منظمة الصحة العامة في إنجلترا تقييماً عن 952 برنامجاً لم يجد أي "ممارسات مثبتة" لتحسين النشاط البدني [7].
ويكمن الحل المحتمل لهذا في تطبيق العلوم السلوكية على عملية تصميم البرامج المجتمعية. وتفترض العلوم السلوكية أنه قد يتأثر الفرد في اتخاذ "خيارات أفضل لأنفسهم" من خلال برامج منظمة بشكلٍ جيد. وتتلخص هذه العملية في اطار السهل الممتنع المذكور أدناه.
الشكل الثاني: اطار السهل الممتنع
مبادرة بارك رن هي فعالية أسبوعية قائمة على متطوعين وتركز على رياضة الجري، بأوقات محددة وبمسافة 5 كم حيث يمكن لأي شخص المشاركة فيها؛ فمنذ أن بدأت في عام 2004، نمت هذه الفعالية إلى أن أصبح لديها أكثر من 130,000 عداءً يشاركون بانتظام [8]. وقد أتى فكرة الفعالية مباشرة من كتاب دليل العلوم السلوكية:
- السهولة: تُعتبر مسافة الـ 5 كم لرياضة الجري مسافة مستساغة لمعظم مستويات اللياقة البدنية. وعملية تسجيلها للمشاركة في الفعالية سهلت المهمة للعدائين المستجدين. كما أن هذه فعالية تُقام في الحدائق في جميع أنحاء الدولة وذلك لتتسنى الفرصة للأفراد من الانضمام إلى فعالية ترتكز على رياضة الجري وقريبة من منازلهم للحد من الجهود المطلوبة من المشاركة في الرياضة.
- الجاذببة: هذه الفعاليات توضع بشكل واضح في المتنزهات في أنحاء الدولة ــ وتجذب انتباه المشاركين المحتملين، إضافة إلى أنها مجانية، وتقلل من التكاليف إلى أدنى حد؛ فهي أيضاً تقدم نموذج حوافز واضح، على سبيل المثال، يمكن أن تقلل المشاركة من أقساط التأمين.
- الفوائد الاجتماعية: تعمل مبادرة بارك رن على تعزيز رياضة الجري محلياً وتعزيز شبكة العلاقات الإجتماعية التطوعية ويصور لنا شعارها الجاذب"رياضة جري، وليست سباق جري" أن يُنظر لهذه الفعالية باعتبارها فعالية داعمة وبسيطة وليست فعالية تنافسية، وهذا من شأنه سيشجع الأصدقاء على ممارسة رياضة الجري مع بعضهم والذي بدوره سيشجع على الالتزام.
الوقت المناسب: وتُقام الفعاليات في الوقت نفسه في كل أسبوع، ولهذا السبب هناك فرصة متاحة لتكرار المشاركة. حيث سيسهل ذلك لنا عملية التخطيط وهذا يعني أن العملية ستسهل على الأفراد أن يبنوا روتينهم وممارستهم الرياضية لوضع أهدافهم اللياقية ومتابعتها. ويأتي الاعتراف بالمشاركين الذين حققو أرقاماً على الصعيد الشخصي أو الذين شاركوا في مسابقات كثيرة من مسابقات الجري. حيث تسهل هذه العملية على تحقيق الفائدة بشكل أسرع للمشاركين من خلال منحهم شعوراً بالإنجاز بعد كل مسابقة من مسابقات الجري
ويُظهِر لنا نموذج باركرون للجري أنه من الممكن أن تكون برامج المجتمع برامجُ فعالة ما إذا أدرجت البرامج أربع مكونات إدراجاً شاملاً لإطار السهل الممتنع ــ وهذا لا يقتصر على استهداف شخص واحد ولكن يجب أن يستهدف مجموعات متعددة من الأشخاص.
على الصعيد الفردي - الاستدامة
وعلى الرغم من نجاح مبادرة بارك رن، إلا أنه تبين أن 30٪ من الـ 2،7 مليون شخص الذين شاركوا عالمياً في هذه المبادرة لم يخوضوا في أكثر من مسابقة جري واحدة وأن أكثر من 50 ٪ من المشاركين لم يخوضوا في أكثر من 3 مسابقات من مسابقات الجري [9]. وهذا يشير إلى أن هنالك احتياج إلى بذل المزيد من الجهود للحفاظ على التغير السلوكي.
ويمكن القول بأن صعوبة الإقلاع عن التدخين يشبه صعوبة ممارسة النشاط كون معظم الناس يرغبون في الإقلاع عن التدخين ولكنهم غير قادرين على ذلك. ارتفعت معدلات الإقلاع في المملكة المتحدة بشكل كبير في السنوات الأخيرة من 13.4% في عام 2010 إلى 19.8% في عام 2017[10]. ويشير التحليل الأولي إلى أن سبب ذلك يعود إلى المزيج من التغيير البيئي من خلال تنفيذ التشريعات الفعّالة والتغيير القائم على التدخلات المستندة على العلوم السلوكية الجيدة ــ على سبيل المثال، تُعتبر عملية توفير البدائل المختلفة مثل البدائل الإلكترونية عاملاً مساعداً في الإقلاع عن التدخين، كما أن الإنخراط في الخدمات والأعمال يساعدان على تقليل نسبة التدخين، إضافة إلى أن حظر التدخين في الأماكن المغلقة يخفف منها، وأيضاً توفر المنشورات الصحية الرئيسية التي تتحدث عن أضرار التدخين رادعاً فعالاً.
ومع ذلك، فإن وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية في المملكة المتحدة تسلط ضوئها على الدعم الشخصي والفردي باعتباره العامل الأكثر أهمية، مستشهدة بأن المدخنين الذين يستخدمون الخدمات والمعالجات المساعدة على الإقلاع عن التدخين على الصعيد المحلي هم أكثر عرضة للإقلاع عن التدخين بنسبة تصل إلى أربع مرات. وتركز هذه الخدمات على العادات كاتخاذ قرار بلا وعي حيث يمثل ذلك 43% مما نفعله كل يوم [11]. والذي بدوره يقدم لنا الدعم لفهم العادات الفردية، والخطط المخصصة، وفرق الدعم، والمعدات، والتدريب لاستبدال العادات القديمة بالعادات الجديدة. كما أن هذه الخدمات تدرك أن تغيير العادات قد يستغرق أكثر من ثمانية أشهر، وبالتالي فإنها تركز على الاستدامة على المدى البعيد.
كما أن العديد من الأنشطة البدنية المصممة هي عبارة عن مبادرات قصيرة المدى. والذي بدورها غالباً ما تقودنا إلى تحقيق نجاح قصير المدى وغير مستدام. ودعونا نفكر في التأثير الناتج عن دعمنا للأشخاص على المستوى الفردي لمساعدتهم في جعل عادات النشاط البدني الجديدة عادات مستدامة!
حان الوقت لنتبنى توجه شامل لتحقيق التغيير
يتعين علينا أن نبذل جهود متضافرة لسد الفجوة بين نوايانا وعملنا. ولكي نفعل ذلك، يجب أن نجرى تغييرات في السلوك على مستوى المنظمات المجتمعية والمجتمع والفرد. وعلاوة على ذلك، لا ينبغي النظر في كل مستوى من مستويات التغيير بمعزل عن غيره. ولهذا يجب أن ننفذ ذلك في إطار نهج شامل يتعامل مع المستويات الثلاثة في نفس الوقت.
ما الذي سنحققه إذا نجحنا في فعل ذلك؟ لو أقنعنا شخص واحد فقط من بين خمسة أشخاص غير نشطين في المملكة المتحدة سيؤدي نتاج ذلك إلى زيادة نسبة النشاط إلى 8% تقريباً في مجمل النشاط البدني في المملكة المتحدة. ولو جعلنا 1.7 مليون شخص إضافي يمارس النشاط في مدينة لندن فقط، فهذا سيؤدي إلى تحقيق قيمة تصل إلى 2.75 مليار جنيه إسترليني من الفوائد الاقتصادية، والصحية، والاجتماعية [12].
أنتهى وقت النوايا. وحان وقت العمل الآن.
[1] استطلاع الحياة النشطة، اتحاد رياضة إنجلترا
[2] استطلاع الأشخاص النشطين، اتحاد رياضة إنجلترا
[3] صحيفة جارديان https://www.theguardian.com/news/datablog/2015/jul/05/olympic-legacy-failure-sports-participation-figures
[4] مجموعة يوجوف https://yougov.co.uk/news/2016/08/03/athletics-swimming-and-track-cycling-are-brits-fav/
[5] مكتبة السباحة البريطانية - http://swimming.org/~widgets/ASA_Research_Library/School%20Swimming/SS1%20-%20Save%20School%20Swimming,%20Save%20Lives%202012.pdf
[6] بي بي سي - http://www.bbc.co.uk/news/10343421
[7] الصحة العامة إنجلترا - https://assets.publishing.service.gov.uk/government/uploads/system/uploads/attachment_data/file/374560/Whatworksv1_2.pdf
[8] parkrun.org.uk
[9] ويكيباركرون https://wiki.parkrun.com/index.php/Club_Membership_(5km)_Totals
[10] التدخين في بريطانيا – معدلات الإقلاع عن التدخين في إنجلترا
[11] علم نفس العادة – وود ورانجر
[12] تحليل شركة بورتاس – المواطنون النشطون في جميع أنحاء العالم